فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: الضمير عائد على قوم آخرين وهو من كلام الكفار، والضمير في {وقالوا} للكفار وتقدم الكلام على {أساطير الأولين} {اكتتبها} أي جمعها من قولهم كتب الشيء أي جمعه أو من الكتابة أي كتبها بيده، فيكون ذلك من جملة كذبهم عليه وهم يعلمون أنه لا يكتب ويكون كاستكب الماء واصطبه أي سكبه وصبه.
ويكون لفظ افتعل مشعرًا بالتكلف والاعتمال أو بمعنى أمر أن يكتب كقولهم احتجم وافتصد إذا أمر بذلك.
{فهي تُملى عليه} أي تلقى عليه ليحفظها لأن صورة الإلقاء على المتحفظ كصورة الإملاء على الكاتب.
و{أساطير الأولين} خبر مبتدأ محذوف أي هو أو هذه {أساطير} و{اكتتبها} خبر ثان، ويجوز أن يكون {أساطير} مبتدأ و{اكتتبها} الخبر.
وقرأ الجمهور {اكتتبها} مبنيًا للفاعل.
وقراءة طلحة مبنيًا للمفعول والمعنى {اكتتبها} كاتب له لأنه كان أمّيًا لا يكتب بيده وذلك من تمام إعجازه، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير فصار {اكتتبها} إياه كاتب كقوله: {واختارموسى قومه} ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إياه فانقلب مرفوعًا مستترًا بعد أن كان بارزًا منصوبًا وبقي ضمير الأساطير على حاله، فصار {اكتتبها} كما ترى انتهى.
وهو من كلام الزمخشري ولا يصح ذلك على مذهب جمهور البصريين لأن {اكتتبها} له كاتب وصل فيه اكتتب لمفعولين أحدهما مسرح وهو ضمير الأساطير، والآخر مقيد وهو ضميره عليه السلام.
وثم اتسع في الفعل فحذف حرف الجر فصار {اكتتبها} إياه كاتب فإذا بني هذا الفعل للمفعول إنما ينوب عن الفاعل المفعول المسرح لفظًا وتقديرًا لا المسرح لفظًا المقيد تقديرًا، فعلى هذا كان يكون التركيب اكتتبته لا {اكتتبها} وعلى هذا الذي قلناه جاء السماع عن العرب في هذا النوع الذي أحد المفعولين فيه مسرح لفظًا وتقديرًا والآخر مسرح لفظًا لا تقديرًا.
قال الشاعر وهو الفرزدق:
ومنا الذي اختير الرجال سماحة ** وجودًا إذا هب الرياح الزعازع

ولو جاء على ما قرره الزمخشري لجاء التركيب ومنا الذي اختيره الرجال لأن اختار تعدى إلى الرجال على إسقاط حرف الجر إذ تقديره اختير من الرجال.
والظاهر أن قوله: {اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلًا} من تمام قول الكفار.
وعن الحسن أنه قول الله سبحانه بكذبهم وإنما يستقيم أن لو فتحت الهمزة في {اكتتبها} للاستفهام الذي في معنى الإنكار، ووجهه أن يكون نحو قوله:
أفرح إن أرزأ الكرام وإن ** آخذ ذودًا شصايصًا نبلا

وحق للحسن أن يقف على الأولين.
والظهر تقييد الإملاء بوقت انتشار الناس وحين الإيواء إلى مساكنهم وهما البكرة والأصيل، أو يكونان عبارة عن الديمومة.
وقرأ طلحة وعيسى فهي تتلى بالتاء بدل الميم.
{قل أنزله الذي يعلم السر} أي كل سر خفي، ورد عليهم بهذا وهو وصفه تعالى بالعلم لأن هذا القرآن لم يكن ليصدر إلاّ من علام بكل المعلومات لما احتوى عليه من إعجاز التركيب الذي لا يمكن صدوره من أحد، ولو استعان بالعالم كلهم ولاشتماله على مصالح العالم وعلى أنواع العلوم واكتفى بعلم السر لأن ما سواه أولى أن يتعلق علمه به، أو {يعلم} ما تسرون من الكيد لرسوله مع علمكم ببطل ما تقولون فهو مجازيكم {إنه كان غفورًا رحيمًا} إطماع في أنهم إذا تابوا غفر لهم ما فرط من كفرهم ورخمهم.
أو {غفورًا رحيمًا} في كونه أمهلكم ولم يعاجلكم على ما استوجبتموه من العقاب بسبب مكابرتكم، أو لما تقدم ما يدل على العقاب أعقبه بما يدل على القدرة عليه لأن المتصف بالغفران والرحمة قادر على أن يعاقب. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ}.
شروعٌ في حكاية إباطيلِهم المتعلِّقةِ بالمنزَّلِ والمنزَّل عليه معًا وإبطالِها. والموصولُ إمَّا عبارةٌ عن غُلاتِهم في الكفر والطُّغيانِ وهم النَّضرُ بنُ الحارث، وعبدُ اللَّهِ بنُ أُميَّةَ، ونوفلُ بنُ خُويلدٍ، ومَن ضامّهم. ورُوي عن الكَلْبيِّ ومُقاتلٍ أنَّ القائلَ هُو النَّضرُ بنُ الحارث. والجمعُ لمشايعةِ الباقين له في ذلك وإمَّا عن كلِّهم، ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهم لذمِّهم بما في حيِّز الصِّلةِ والإيذانِ بأنَّ ما تفوَّهوا به كفرٌ عظيمٌ وفي كلمةِ {هذا} حطٌّ لرتبة المشارِ إليه أي ما هذا إلا كذبٌ مصروفٌ عن وجهِه {افتراه} يريدون أنَّه اختلقَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ} أي على اختلاقِه {قَوْمٌ ءاخَرُونَ} يعنُون اليَّهودَ بأنْ يُلقوا إليه أخبار الأممِ الدَّارجةِ وهو يعبِّر عنها بعبارتِه. وقيل: هما جبرٌ ويسارٌ كانا يصنعانِ السَّيفَ بمكَّةَ ويقرآنِ التَّوراةَ والإنجيلَ. وقيل: هو عابسٌ وقد مرَّ تفصيلُه في سورة النَّحلِ {فَقَدْ جاءُوا ظُلْمًا} منصوبٌ بجاءوا فإنَّ جاءَ وأَتَى يستعملانِ في معنى فَعَل فيُعدَّيانِ تعديتَه أو بنزعِ الخافضِ أي بظلمٍ قاله الزَّجَّاجُ. والتَّنوينُ للتَّفخيمِ أي جَاءوا بما قالُوا ظلمًا هائلًا عظيمًا لا يُقادر قَدرُه حيث جعلُوا الحقَّ البحتَ الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديهِ ولا من خلفِه إفكًا مُفترى من قبل البشرِ وهو من جهة نظمِه الرَّائقِ وطرزه الفائقِ بحيث لو اجتمعتِ الإنسُ والجنُّ على مباراتِه لعجزُوا عن الإتيان بمثل آيةٍ من آياتِه ومن جهة اشتمالِه على الحِكَمِ الخفيَّةِ والأحكامِ المستتبعةِ للسَّعاداتِ الدِّينيةِ والدُّنيويَّةِ والأمور الغيبيَّةِ بحيثُ لا يناله عقولُ البشرِ ولا يفي بفهمه القُوى والقُدر {وَزُورًا} أي كذبًا كبيرًا لا يُبلغ غايتُه حيث نسبوا إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما هو بريءٌ منه.
والفاء لترتيبِ ما بعدها على ما قبلها لكن لا على أنَّهما أمرانِ مُتغايرانِ حقيقة يقع أحدُهما عقيب الآخرِ أو يحصل بسببه بل على أنَّ الثَّانِي هو عينُ الأوَّلِ حقيقة وإنَّما التَّرتيبُ بحسب التَّغايرِ الاعتباريِّ. وقد لتحقيقِ ذلك المعنى فإنَّ ما جاءوه من الظَّلمِ والزُّورِ هو عينُ ما حُكي عنهم لكنه لما كان مُغايرًا له في المفهوم وأظهرَ منه بُطلانًا رُتِّب عليه بالفاء ترتيبَ اللازم على الملزوم تَهويلًا لأمره.
{وَقَالُواْ أساطير الأولين} بعد ما جعلوا الحقَّ الذي لا محيدَ عنه إفكًا مختلَقًا بإعانة البشرِ بيَّنوا على زعمهم الفاسدِ كيفيَّةَ الإعانةِ. والأساطيرُ جمع أسطارٍ أو أُسطورةٍ كأُحدوثةٍ وهي ما سطرَه المتقدِّمون من الخُرافاتِ {اكتتبها} أي كتبها لنفسِه على الإسناد المجازيِّ أو استكتبَها. وقرئ على البناءِ للمفعولِ لأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أُميٌّ. وأصله اكتتبها له كاتبٌ فحذف اللامُ وأُفضيَ الفعلُ إلى الضَّميرِ فصار اكتتبَها إيَّاه كاتبٌ ثم حُذف الفاعلُ لعدم تعلُّقِ الغرضِ العلميِّ بخصوصِه وبُني الفعلُ للضَّميرِ المنفصلِ فاستترَ فيه {فَهِىَ تملى عَلَيْهِ} أي تُلقي عليه تلك الأساطيرُ بعد اكتتابِها ليحفظَها من أفواهِ مَن يُمليها عليه من ذلك المكتتب لكونِه أميًّا لا يقدرُ على أنْ يتلقَّاها منه بالقراءةِ أو تملي على الكاتب على أنَّ معنى اكتتبها أرادَ اكتتابَها أو استكتابَها. ورجعُ الضَّميرِ المجرورِ إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لإسنادِ الكتابةِ في ضمن الاكتتابِ إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ. {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} أي دائمًا أو خُفية قبل انتشارِ النَّاسِ حين يأوون إلى مساكنِهم. انظُر إلى هذهِ الرُّتبةِ من الجراءةِ العظيمةِ قاتلهم الله أنَّى يُؤفكون.
{قُلْ} لهم ردًّا عليهم وتحقيقًا للحقِّ {أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر في السموات والأرض} وصفه تعالى بإحاطةِ علمِه بجميع المعلومات الجليَّةِ والخفيَّةِ للإيذان بانطواءِ ما أنزله على أسرارٍ مطويَّةٍ عن عقول البشر مع ما فيه من التَّعريضِ بمجازاتِهم بجناياتهم المحكيَّةِ التي هي من جُملة معلوماتِه تعالى أي ليس ذلك ممَّا يُفترى ويُفتعل بإعانة قومٍ وكتابة آخرين من الأحاديثِ المُلفَّقة وأساطيرِ الأوَّلينَ بل هو أمر سماويٌّ أنزله الله الذي لا يعزبُ عن علمه شيءٌ من الأشياءِ وأودع فيه فنونَ الحكمِ والأسرارِ على وجهٍ بديعٍ لا يحومُ حوله الأفهامُ حيث أعجزَكم قاطبةً بفصاحتِه وبلاغتِه وأخبركم بمغيَّباتٍ مستقبلةٍ وأمورٍ مكنونةٍ لا يُهتدى إليها ولا يُوقف عليها إلا بتوفيق العليم الخبيرِ وقد جعلتمُوه إفكًا مُفترى من قبيل الأساطير واستوجبتُم بذلك أنُ يُصَبَّ عليكم سوطُ العذابِ صبًّا. فقولُه تعالى: {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} تعليلٌ لمَا هو المشاهد من تأخير العقوبة أي أنَّه تعالى أزلًا وأبدًا مستمرٌّ على المغفرةِ والرَّحمةِ المستتبعين للتَّأخيرِ فلذلك لا يُعجِّلُ بعقوبتِكم على ما تقولون في حقِّه مع كمال استيجابِه إيَّاها وغاية قُدرتِه تعالى عليها. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ}.
القائلون كما أخرجه جمع عن قتادة هم مشركو العرب لا جميع الكفار بقرينة ادعاء إعانة بعض أهل الكتاب له صلى الله عليه وسلم وقد سمى منهم في بعض الروايات النضر بن الحارث وعبد الله بن أمية ونوفل بن خويلد، ويجوز أن يراد غلاتهم كهؤلاء ومن ضامهم، وروى عن ابن عباس ما يؤيده، وروى عن الكلبي.
ومقاتل أن القائل هو النضر والجمع لمشايعة الباقين له في ذلك، ومن خص ضمير {اتخذوا} [الفرقان: 3] بمشركي العرب وجعل الموصول هنا عبارة عنهم كلهم جعل وضع الموصول موضع ضميرهم لذمّهم بما في حيز الصلة والإيذان بأ ما تفوهوا به كفر عظيم، وفي كلمة {هذا} حط لرتبة المشار إليه أي قالوا ما هذا إلا كذب مصروف عن وجهه {افتراه} يريدون أنه اهترعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل عليه عليه الصلاة والسلام {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ} أي على افترائه واختراعه أو على الإفك {قَوْمٌ ءاخَرُونَ} يعنون اليهود بأن يلقوا إليه صلى الله عليه وسلم أخبار الأمم الدارجة وهو عليه الصلاة والسلام يعبر عنها بعبارته، وقيل: هم عداس، وقيل: عائش مولى حويطب بن عبد العزى ويسار مولى العلاء بن الحضرمي وجبر مولى عامر وكانوا كتابيين يقرؤن التوراة أسلموا وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعهدهم فقيل ما قيل، وقال المبرد: عنوا بقوم آخرين المؤمنين لأن آخر لا يكون إلا من جنس الأول، وفيه أن الاشتراك في الوصف غير لازم ألا ترى قوله تعالى: {فِئَةٌ تقاتل في سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ} [آل عمران: 13] {فَقَدْ جَاءوا} أي الذين كفروا كما هو الظاهر {ظُلْمًا} منصوب بجاءوا فإن جاء وأتى يستعملان ف يمعنى فعل فيتعديان تعديته كما قال الكسائي، واختار هذا الوجه الطبرسي وأنشد قول طرفة:
على غير ذنب جئته غير أنني ** نشدت فلم أغفل حمولة معبد

وقال الزجاج: منصوب بنزع الخافض فهو من باب الحذف والإيصال، وجوز أبو البقاء كونه حالًا أي ظالمين، والأول أولى، والتنوين فيه للتفخيم أي جاؤا بما قالوا ظلمًا هائلًا عظيمًا لا يقادر قدره حيث جعلوا الحق البحت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إفكًا مفتري من قبل البشر وهو من جهة نظمه الرائق وطرازه الفائق بحيث لو اجتمعت الإنس والجن على مباراته لعجزوا عن الإتيان بمثل آية من آياته ومن جهة اشتماله على الحكم الخفية والأحكام المستتبعة للسعادات الدينية والدنيوية والأمور الغيبية بحيث لا تناول عقول البشر ولا تحيط بفهمه القوى والقدر، وكذا التنوين في {وَزُورًا} أي وكذبًا عظيمًا لا يبلغ غايته حيث قالوا ما لا احتمال فيه للصدق أصلًا، وسمي الكذب زورًا لا زوراره أي ميله عن جهة الحق والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها لكن لا على أنهما أمران متغايران حقيقة يقع أحدهماعقيب الآخر أو يحصل بسببه بل على أن الثاني عين الأول حقيقة وإنما الترتيب بحسب التغاير الاعتباري، وقد لتحقيق ذلك المعنى فإن ما جاءه من الظلم والزور هو عين ما حكى عنهم لكنه لما كان مغايرًا له في المفهوم وأظهر منه بطلانًا رتب عليه بالفاء رتيب اللازم على الملزوم تهويلًا لأمره كما قاله شيخ الإسلام، وقيل: ضمير {جاؤا} عائد على قوم آخرين، والجملة من مقول الكفار وأرادوا أن أولئك المعينين جاءوا ظلمًا بإعانتهم وزورًا بما أعانوا به وهو كما ترى.
{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}.
بعدما جعلوا الحق الذي لا محيد عنه إفكًا مختلقًا بإعانة البشر بينوا على زعمهم الفاسد كيفية الإعانة، وتقدم الكلام في أساطير وهي خبر مبتدأ محذوف أي هذه أو هو أو هي أساطير، وقوله تعالى: {اكتتبها} خبر ثان، وقيل: حال بتقدير قد.